Press ESC to close

البيعة للمال: لماذا كانت الجمهورية بنت الضرورة المالية؟

July 23, 2025 — 28 Muharram, 1447

تنبيه اصطلاحي:
في هذا المقال –وسواه مما يُكتب في هذا السياق– لا نستخدم بعض المصطلحات السياسية الحديثة وفق دلالاتها الدعائية، بل نُحاول أن نُعيدها إلى حجمها التاريخي وسياقها العملي.
فحين نقول “حكم الدهماء” فنحن نعني بها ما آل إليه واقع “الديمقراطية”حُكم الدهماء لا حكم الشعب بالمعنى الراشد.
وحين نقول “إمارة الجماهير” فإنما نُشير إلى الجمهورية، حيث لا حُكم إلا باسمهم، ولا شرعية إلا برضاهم الموهوم.
أما “الرئيس” فليس عندنا سيّدًا ولا زعيمًا، بل واليًا على الدهماء، يتقلّب معهم حيث تقلّبوا، لا يملك عليهم من الأمر شيئًا إلا ما منحوه مؤقتًا -وهذا شأن الوالي يُسْتَعْمَلُ وَيُخْلَع- ثم استردّوه بلعبة الصندوق أو صرخة الشارع.

ما كان انقضاء الممالك من نوازل الدهر العرضية، ولا كانت شمس الرأسمالية إشراقَ صبحٍ بعد ليل من الجهالة، كما يهذي أهل الحداثة حين ينظمون مدائح التقدّم في غير موضعها. بل كان ذلك –والحق يُقال– زحزحةً لعرش التاريخ عن مركزه، وتحويلًا لوجهة العمران عن سننه، إذ ما وُلدت الرأسمالية إلا من رُكام التيجان، ولا نهضت إلا على أطلال القصور، فهي لم تكن قدرًا محضًا، بل كانت انقلابًا هادئًا تدبره العقول قبل أن تُشهره البنادق.

فالممالك –بما فيها من مجد النسب، وعز السلالة، وهيبة الوراثة لم تكن تُدار بميزان السوق، بل بميزان السؤدد، ولم تكن تقيم أمرها على المنافع، بل على الشرف الموروث، لم تكن تَحبس المقامات على ذوي النسب، ولا تَجعل الكدّ وحده سُلّمًا للارتقاء، بل جمعت بين الفضيلة والمكانة، ورفعت من اجتمع له الدين والكفاءة، ولو كان من الموالي أو أبناء السواد. لم تكن تَعرف التعاقد الذي تُبنى عليه الشركات، بل تَعقد الولاء بين السيد ومَن تحت كنفه. وكانت الثروة في حِماها تَسري كالنهر في مجراه، لا تباع ولا تُشترى، بل تُمنح وتُهدى.

في دواوين دمشق وبغداد والقاهرة والآستانة، وحدائق الهند والغزنويين، في قصر الحمراء وقصر آخن وبوربون، كان الزمن ساكنًا، متراتبًا، محفوظًا كصندوق جوهري لا يُفتح إلا بمفتاح النسب أو الولاء أو كليهما. لا حركة فيه إلا بإذن، ولا ترقّي فيه إلا بالعُرف، ولا مكان فيه للفوضى التي يسمّونها حرية السوق. لقد كان نظامًا يُعلي السقف على الجميع، لكنه يُظِلّهم جميعًا.

وأما الرأسمالية، فهي نِحلةٌ أخرى، ووجهٌ مباينٌ لما عهدته القرون من سلطانٍ يُؤْتيه الله مَن يشاء. لم تُبْنَ على عِزِّ النسب ولا شرف البيت، بل على مِعيارٍ دقيقٍ لا يخطئ ولا يرحم: كم تُدرّ يدك من ذهب، لا كم تحمل من فضل. قُدِّر لها أن تقوم على سوقٍ لا يعرف الحُرُمات، وسلطةٍ تُبدَّل كما تُبدَّل أردية الوزراء، وطبقاتٍ لا يربطها ميثاقٌ ولا خُلق، إنما يجمعها سُعار التملك ولهاث الربح.

ولم يكن لها أن تُولد في ظلّ عمامةٍ تُطوَى لها الرقاب، ولا في حِمى مَقامٍ تُنسَب إليه الشرعية من عَليّ السماء. كانت في حاجةٍ إلى أرضٍ خالية من “الحق الموروث”، وتاريخٍ منزوع الدسم، تُمحى منه عهود الولاء والبيعة، ويُصبّ بدلها حبر العقود والأسهم والمضاربات.

فما سقوط العروش –كما يزعم بعض أهل العصر الحادث– مجرّد تبدُّل في أسلوب الحكم، بل هو قلْبٌ لموازين الاجتماع وتحوُّلٌ في جوهر الدولة. فالحاكم إذا صار عبدًا لأرقام سوق الأسهم، لم يعد مَناطه الشرع ولا رضا الرعية. والدولة إذا انفصلت عن النَّسب والمقدّس، لم تعد تُقيم وزنًا إلا لمن يملأ خزينتها. وهكذا، غُيّب وجه السلطان، وطُمست أنفاس المقام الشريف، لِيُفسَح المجال لعرشٍ جديد، لا يُرى ولا يُلمس، كرسيه في قلب المصرف، وسلطانه في يد من يمسك بخيوط السوق.

في الشرق، حيث نشأت الدول من رحم الدين، وتفرعت الممالك عن دوحة الخلافة، لم تكن الولاية سلعة تُباع، ولا الكرسيّ عقارًا يُورث لمن يدفع. كانت الإمارة أمانةً في عنق الأمير، لا سهمًا في سوق تُداول فيه الصفقات. السلطان، وإن جار، كان يُحاسَب منبرًا ومحْرابًا، ويُذكَّر أن وراء الدنيا آخرة، وأن للملك يومًا يحاسب فيه حسابا عسيرا عن الرعية إن هو ضيعها.

غير أن الأيام دارت، وسُرّحت القلوب عن معاني الورع، ودخلت السوق من أبوابها العريضة. تقدّمت الرأسمالية كقافلة لا تبالي بمن تقصيه، ولا بما تهدمه من معانٍ. لا همّ لها بحكم مطلق أو سلطان مهاب، إلا إذا كان مانعًا لانسياب رأس المال ومرور العقود. فما أرادته لم يكن تحرير الإنسان، بل تحرير السوق من الإنسان: من ضميره، ومن شرعته، ومن ذاكرته.

فالملك إذا لم يُزَح، بقيت معه قوانينه. والحكم إذا أُسّس على نسب، بقي وفيًّا لأصوله، لا لمصالح الشركات. أما إذا احتكم للشرع، فلا سبيل لتعديله بسوق أسهم ولا ببيان. ولذا كانت الرأسمالية بحاجة لا إلى ثورة على الملوك، بل إلى خلع روح المُلك ذاتها من الصدور، وإبدالها بعقلية المُستثمر والمُضارب.

ثم خرج علينا حكم الدهماء التمثيلي، لا كخصم للاستبداد، بل كوكيل معتمد لإدارته. لم يُبطِل سلطان الفرد، بل وزّعه على مقاعد، وغلّفه بورق الاقتراع. فالحاكم فيه لا يُعفى بل يُداوَر، ولا يُحاسَب بل يُستبدَل، ليبقى الجوهر كما هو: منفذًا لا صانع قرار.

وهذا التدوير، وإن أوهم الجماهير بأنه سلطة بأيديهم، فهو في حقيقته صكُّ تفويض دائم للسوق. إذ في كل دورة انتخابية تُعاد صياغة القوانين على مقاس الممول، لا الناخب، وتُشرَع الأبواب لأهل النفوذ المالي، لا لأصحاب الهمّ العام. وهكذا غدا “صوت المواطن” أداةً تُستخرج كل أربع سنين، لتُشرعن قرارات أُقرّت سلفًا في دهاليز المصارف ومعارض المنتديات الاقتصادية.

ولم يكن التبدّل في الشأن السياسي وحده، بل تعدّى إلى أمر الإنسان في نفسه. فإنّ المُلك إذا استقرّ في يد سلطانٍ عادل، صارت الرعيّة في ذمّته، يُحاطون من رعايته بما يُغني عن المسألة، ويُكفون أمر معاشهم بكفالته، إذ كان الحاكم مسؤولًا عنهم، لا بما تواضع عليه الناس من العقود، بل بما وُضع في عنقه من الأمانة، وما استُرعي من الحِفظ والرعاية. فالجائع يُؤخذ جوعُه عليه، والعاري يُسأل عن عُريُه في مجلسه، والمريض لا يُترك لبلواه، إذ الحاكم راعٍ، والرعية مسؤولون منه.

فلما تبدّلت الحال، وانعكست صورة السلطان في إمارة الجماهير، صار الناس لا يُعرفون بالرعيّة، بل يُعدّون في دفاتر الدولة، ويُحصَون عدًّا كما يُحصى المتاع. فانقطعت عنهم عُرى الكفالة، ورُدّ أمرهم إليهم. فمن جاع فبجريرته، ومن مرض فبخطيئته، والدولة لا تسأل: من أطعمك؟ بل تقول: هل وفيت بحق الجباية؟ فزال وجهُ الكفالة، وحلّ محلّه الحِساب، وصار والي الدهماء عنهم بمعزل، يُديرهم إدارة التاجر في سوقه، لا يهمّه من أمرهم إلا ما دخل له في الخزينة، أو خرج.

غير أنّ هذا التبدّل في الشأن العام، لم يكن على نسقٍ واحدٍ في جميع المواطن، ولا استوت به أمصار الدنيا في الشرق والغرب. فإنّ الدول في أفق المشرق، وإن لبست لبوس الحداثة وتسمّت بأسماء الجمهور، لم تفارق إرث السلطان القديم، ولا برِئت من خِلال الدولة الأبوية. وليس ذلك لفضلٍ في طباعها، ولكن لأنّ الدين المتوارَث، والعوائد المستحكمة، والثقافة الراكزة في النفوس، حالت دون ذهاب ذلك بالكلّية. فإنّ الناس هناك نشؤوا على تعظيم السلطان، والدعاء له على المنابر، والنظر إليه نظر الراعي إلى رعيّته، لا نظر المتعاقدين في السوق.

فلم تستقم لهم صورة الدولة التي تَدَعُ الفقير لمصيره، ولا وجدوا في أنفسهم طِيبًا بفكرة التكافؤ المزعوم، إذا لم يكن معها كفالة وعدل. ولهذا ترى خطاب الدولة، وإن اشتدّت إمارة الجماهير فيها، وادّعت لنفسها الحداثة، لا يزال منشغلًا بأمر البطالة، ومسألة السكن، وكفالة الحدّ الأدنى من المعاش. وليس هذا من فُضول الاشتراكية القديمة، بل هو شاهدٌ على عجز الدولة الرأسمالية أن تُزيل من النفوس صورة الدولة الأم، التي تُعطي وتَمنع، وتكفُل وتُدين، وتُحسِن وتَبطِش، وإن ادّعت الحياد أو رفعت شعارات السوق.

ومن الفروق البينة بين السياسة الملكية في المِلَل، لا سيّما منها ما كان على سَنَن الشريعة، وبين ما أحدثته الدهماء في الأعصار المتأخرة من تدبيرات السوق، أن الملوك في الإسلام –وقد جعلوا سلطانهم مَظِنّةً للشرع، ورايته رايةَ الدين– كانوا يُحرِّمون الربا ويمنعون منه، عدًّا له من أكل أموال الناس بالباطل، لا مسألةً من فقه المعاملات يُتوسّع فيها بالرأي والمصلحة. وقد وقع هذا من الخلفاء والملوك: فكان عمر بن عبد العزيز، فيما رُوي عنه، أشدّهم في ذلك تحرِّيًا، إذ نَهى عنه البتّة، وأخذ فيه بالشدّة، حتى رُوي أنه ضرب على أيدي الربويين وأخذ مالهم. وكذلك كان سلاطين بني عثمان، فإنهم وإن ترخّصوا في بعض معاملاته بوسائط شرعية، أو بتوسيع المجال لأهل الذمة، فإن الأصل في ديوانهم الحظر والمنع، لا الإباحة والتنظيم.

وأما أهل أوروبة، فقد كانت الكنيسة قبل أن تنكص على عقبيها، تُجرِّم الربا وتعدّه من الكبائر، حتى كان المجمع الثاني بنيقية قد أفتى بتحريمه. ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن ظهرت الدولة الحديثة، وخرج الأمر من أيدي الملوك والباباوات إلى البرجوازية الطامعة في نماء مالها. فعندئذ شُرِّعت الفائدة، وبُدّلت الأسماء، وأُلبس الربا لَبوسَ “الائتمان”، فصدر في إنكلترة قانون يُبيح الفائدة بنسبة لا تتجاوز العُشْرَ في عهد إليزابيث الأولى، وكان ذلك سنة 1571. ثم جاء أهل الثورة من بعد، في إفرنسة، فأبطلوا ما كان من منعٍ كنسيٍّ، وجعلوا التعامل بالفائدة من حقوق “الحرية”، لا من موبقات الربا. فزال الحظر، لا لأن الإنسان تبيّن له رشدًا، ولكن لأن السوق طلبت ذلك، فلبَّت الدولة حاجته، وأذعنت له.

وأما من أعجب ما ابتُدعت به حضارة هذا الزمان أن الرأسمال لم يتمكَّن من سَوْقِ الخلق إلى طاعته، حتى نَزَعَ عن الإنسان كل نسبٍ أو رباط، إلا رباط الحاجة والفاقة. إذ كانت الممالك في سالف الدهور تجعل المرء منسوبًا إلى أرضه، أو ملتحقًا بعشيرته، أو معقود النسبة بمنزلته في قومه، فلا يُؤخذ إلا بأمر أهله، ولا يُسلَب إلا بعُرف موضعه.

وأما هذه “الحضارة”، فإنها أرادت للمرء أن يُستأصل من كل رابطة، حتى لا يبقى له من الدنيا إلا جَسَدٌ يعمل، وجَهدٌ يُباع. فصار الإنسان فيها سلعة من جملة السلع، تُحْتَسَبُ أنفاسه بالساعة، وتُقوَّم حركته بالميزان، ويُكتتب عمله كما تُكتتب السِّلَع في أسواق التجار. لا يُنظر إليه من جهة النسب ولا الحسب، ولا يُؤبَه له إن لم يكن نافعًا بيده أو لسانه، فإن تعطل عن الكسب رُذل، وإن عجز عن الأداء أُهمل.

فغدا الإنسان في هذه “الحضارة” مملوكًا بلا مِلْك، ومأكولًا في غير فَناء، وموزونًا بغير تقدير.

ولم يكن لِما أُحكِم من نظام هذا العمران الجديد أن يستوي على سوقه، وفي الأرض ملكٌ مستعلٍ بنسبٍ عَلٍ، أو إمبراطورٌ يَلوذ بشرعةٍ سماويّة، أو سلطانٌ تُعقد له البيعة ولا تُنتزع منه بالاقتراع. فإن السوق لا تألف التقديس، ولا يُجامع الرأسمالُ المُطلقَ من الحُكم، إذ لا يطمع في تغييره، ولا يملك سبيلًا إلى مدافعته.

وأما السلطة إذا كانت تُستخرج من صناديق العامة، فهي إلى المال أميل، وبه تُقام حُجّتها، وبه تُشدّ أعمدتها، وبه تُرَهَّبُ إن شقّت عصا طاعته.

وربما قال قائل: فَلِمَ لم تُقِم الملكياتُ الحديثة ما كان للملكيات القديمة من رسوخ واستقرار؟ ولمَ صارت هي ذاتُها أسيرةً لقوانين الرأسمال ونواميس السوق؟

والجوابُ أن ما بقي من تلك المَلكيات إنما هو ظِلٌّ بعد ضوء، وهيئةٌ بلا روح، وأشباح أنظمة خَلَت، نُزِعت عنها أَزِمَّةُ السلطان، وانفصمت عُرى السيادة الفعلية. فالملك، في نظام الرأسمالية الراهن –وإن أُطلق على أرضه اسم “مملكة”– لا يحكم من شُرفةٍ عليا، ولا يُقيم ملكه من ذات نفسه، بل يُرزَق من السوق، ويُسوَّغ وجوده برضاها، ويُقاس بقَدر ما يُزيّن من صورتها.

فالمَلَكية لم تعُد مَعدن الشرعية، ولا منبع الحُكم، بل أصبحت حِلْيَةً تُرصّع بها جباهُ الحداثة، وتُسَكّن بها نفوس العامّة، وتُجمّل بها أنظمةٌ لا قلب لها ولا ذاكرة.

وأما من بقي من الملوك ممّن يباشر السلطان ويقبض على أزمّته، فلم يجد بُدًّا من مُداراة السوق، وتَصريف شؤونه على مقتضاها: فإما أن يُسرع إلى الخصخصة، ويُفَتّح الأبواب لرأس المال، ويعيد ترتيب أموره على مِيزان “الجدوى”، أو يُنبَذ نبذ النواة، ويُضيَّق عليه، ويُستَنزف في حرب باردة لا مدّ فيها ولا جزر.

ولقد تغيّرت رسوم السياسة، وانقلبت وجوه التدبير، فما عاد استقرار الملك مما يُطلَب لذاته، ولا طاعة الرعايا مما يُرجى لنُسكهم أو صلاحهم، بل صار المدار على ما يجلب النماء في المال، ويدفع الفتور في السوق، ويبعث الحركة في الأثمان والمبايعات.

فليس الغرض اليوم أن يُحمد والي الدهماء لأبوّته، أو يُعظَّم لكرمه، أو يُسجَّل له في وثائق الدولة سابقةُ مكرمة، بل أن يكون عند أرباب التجارة حسنَ التصريف، مُجيدًا لمراعاة الأسواق، قريبَ السمع للمرابين، حاضرَ التوقيع في معاهدات التبادل والامتياز.

ولم تكن ثورة على المُلوك كما قيل، ولا نهضة من جور إلى عدل كما زُعِم، ولكنها سوقٌ لا تحتمل تاجًا لا يُنتَزع، ولا يدًا لا تُساوَم، ولا عرشًا تُكتَب له الديمومة.
فكان خلعُ الملوك إذ ذاك سياسةً، لا فضيلة، وتدبيرًا، لا تحرُّرًا.

فلما سُحِبَ التاج من فوق الهامة، لم يُرفَع الإنسان مكانة، بل هان سعرًا، وبُورك بيعه، وصار يُقوَّم لا بالقسطاس، بل بما يُنتج ويُستهلك، لا بما يعلم ويعقل.

Join the Discussion

Leave a Comment

Comments are moderated