وطنٌ من ماء: قراءة في جغرافيا مصر السياسية
تقدمة ليست كلُّ الأوطان سواء، ولا كلُّ الخرائط تنبض بالحياة كما تنبض…
إذا اشتد ألم الجَوى، وانحلت عُرى الصبر، وانفصمت عُروة الاحتمال عن الروح، لم يكن أول ما يخطر ببال الفؤاد أن “الله عادل”، بل يثور في النفس سؤالٌ أجرأ من أن يُقال، وأقلُّ تأدّبًا من أن يُجهر به: وإن كان الله عدلًا، فهل في العدل وحده كفاية؟ هل تُسكِت العدالة أنينَ النفس المكسورة؟ وهل تقتضي أن يُردَّ إليَّ ما سُلِب، وأن تُروى تلك اليابسة في صدري وقد أضناها العطش والخذلان؟
لقد قال القائلون — وما أكثر ما قالوا — إنّ كل شيء يجري على قدرٍ، وإنّ البلاء ميزان، به يُعرف المعدن، وتهذُب النفس، وتُرفع الدرجات. وقالوا: ليس الألم عذابًا، بل طريقٌ، وليس الابتلاء نكالًا، بل خطابٌ من لدن عليم. وكل هذا، في جملته، لا يُدفع، بل يُقبَل. غير أني رأيت أن منطق الحِكمة لا يسدُّ ثُلمة الألم، وأن العقل، وإن شبع بالحجج، قد يبقى في قلبه مسغبةٌ لا تسدُّها إلا يدٌ لا تُرى.
ما كنتُ بجاحدٍ للعدل، ولا بمستهينٍ بالحكمة، ولكن في قرارة النفس شيء يعيد تشكيل السؤال كلما همدت جذوته، فكأنّ الجواب الذي في يدي يتلاشى إذا عاود السؤال قرعه في القلب. وكأنّ في الأعماق صوتًا لا يريد الاقتناع، وإن بدا مقتنعًا، نفسٌ تستمسك بحقها في الاعتراض الكامن، والغضب الصامت، والحزن الذي يأبى المصالحة.
كم ترددت على مسامعي مقالة من قال: إن الله يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون. وكنت أردده بلسان الخشوع، فإذا مسّني ضرّ، ونزل بي البلاء، وانقطعت أسباب النجاة، ناجتني نفسي: إن كان يعلم، فلمَ يبتليك؟ إن كان يعلم المآل، فلم لا يكتفي بعلمه؟ أليس في الاكتفاء رحمة؟ أليس فيه رفق؟ أليس ذلك أعدل؟
ما كان سؤالي لعبًا ولا عبثًا، بل منبعُه ألمٌ مقيمٌ في طوايا النفس، واقعٌ لا يزال ينبض بأثره، وجرحٌ لا أراه عارضًا، بل جزءًا من كينونتي. وكل تفسير يلقى في الطريق يصطدم بحجر التجربة، ويتكسر على صخرة ما جرى. فإن الوجع إذا جاوز حدًّا، لا تطفئه براعة الحجج، ولا تهدهده منطقية التبرير.
ثم تبيّن لي أن الجواب، وإن بدا شافيًا، لا يطفئ السؤال، بل يولد منه فرعًا جديدًا. فكأن كل إجابة مخلصة تلد سؤالًا أخلص منها، وغالبا أوجع منها
إن العدل الإلهي، وإن علا قدره، لا يقتضي بالضرورة راحةً للعبد، بل أن تُرَدّ لكل نفس منزلتها، ويُربَط كل اختيار بمآله، ويُجزى المرء على ما كان من فعله، لا على ما كان يخطر له من نية أو وهم. فليس الثواب ولا العقاب على ما كاد أن يكون، بل على ما تحقق ووقع، وما خرج من مضمر النفس إلى ظاهر العمل. ولأجل ذلك، لا يُحاسب الربُّ على الإمكان، بل على التحقّق والعيان.
غير أنّ هذا البيان، وإن قام بركائز العقل، لا يطمئن له قلبي. فإني، وإن سلّمتُ بنظام العدالة هذا، أجد في نفسي سؤالًا يتجدد كل مرة: لِمَ رضي أن تُبنى النفوس في قالبٍ يستلزم الألم؟ لِمَ لم يُنشئ نظامًا لا يُكسرُ فيه الشيء ليُصلح، ولا يُبتلى العبد ليُهذّب؟ أليس في قدرته أن يخلقني سويًّا فلا أعثر؟ أليس في رحمته ما يُغني عن هذه المسالك؟
وإن مما يثقل على النفس أنها لا تجد سبيلًا إلى النجاة من هذه المسائل إلا بردّها إلى باب التسليم، لا إلى دار الفهم. وكلما حسبتُ أني قد دنوتُ من جواب، وجدتني أعود إلى البدء، لكني في كل مرة أعود أكثر تعبًا، وأكثر انكشافًا.
بل إن من أعجب العجائب، وأشدّها وطأةً على القلب، أن العليَّ الأعلى لا يسلّط البلاء لتنكشف له خفاياك، بل لتنكشفَ لك نفسك، فترى من دخائلها ما لم تكن به خبيرًا. فإنّك في أزمنة الرخاء تتخايلُ إلى ذاتك أنك الصابرُ المحتسب، وفي مواسم العافية تُمنّي النفس بأنك الشاكرُ الراضي. ولكن ما أبعد المظنون عن المكنون!
فلا يُفجِّرُ حقيقة الصبر إلا شوك البلاء إذا نبتَ في لحم القلب، ولا يُظهِر التوكل إلا إذا انخلعت من تحتك أرض الأسباب، ففي قوارعي شعرتُ لكأنّي رجلٌ أُلقي في قارعة الجحيم، فانسلخ عن بدنه جلدُ الطمأنينة، وتفسّخت في صدره ضلوع الأمان، وبقي واقفًا وحده، عاريًا من كل سند، إلا من نظرٍ إلى السماء لا يرتدُّ، ولو احترقت أجفانه.
هنا فقط، يُنتزع اللثام عنك، فترى كم كنت هشًّا، وكم كنت مدّعيًا، وكم كنت تحسبُ الإيمان لباسًا يلبس في الأعياد، فإذا هو جرحٌ يُفغرُ فاهُ في كل لحظة، لا يلتئم إلا إذا داواه ربّه بنفسه.
وإن سلّم العقل بالحجة واستكان، فإنّ النفس لا تهدأ ولا تستريح، إذ تدرك في طيّات هذا العدل شيئًا من الغلظة، أو هكذا تتوهّمه. فالعدل، وإن كان لا يَظلم، فإنه لا يَحنو، ولا يَجبر الكسر، ولا يَضُمّ الموجوع إلى صدر السكون. إنما العدل يضع كل أمرٍ في موضعه، ولا يملأ في القلب موضعًا خلا إلا بمقدارٍ مستحق.
وها هنا يتكشّف أن السؤال لم يكن يومًا: آلله عادل؟ بل: أتكفي عدالته وحدها؟ أيمكن للنفس أن تحيا عمرها على هذا الرّكن فحسب؟ أم أنها تفتقر إلى شيء آخر، شيء يربت على كتفها ولا يوازن كفتيها؟
ولأن النفس تعلم، بفطرتها الأولى، أن القسط وإن بلغ كماله، لا يغنيها عن الرحمة، فإنها تبدأ بالبحث في أسماء ربها عما وراء العدل: الجبّار، والرحيم، واللطيف، والرؤوف، والحليم. فلا تطلب القسط وحده، بل تشتاق إلى الجبر، ولا ترضى بالإنصاف فقط، بل تهفو إلى حضن الرحمة.
ولعلّ في هذا يكمن السّر: أن الله، جل وعلا، لم يتقدّم إلى خلقه باسم “العادل” في أوّل ما عرّف به ذاته، وإن كان عدله بادٍ في كل موضع، بل بدأهم بالرحمة، فقال: “الرحمن الرحيم”، كأنّ الرحمة هي السّياج الذي يحيط بسائر الصفات، والإطار الذي تُرصّ داخله كل معاني الجلال، والمقدّمة التي لا يُؤتى بعدها إلا بكمال البيان.
ثم يتكشّف لك من أمر البلاء سرٌّ آخر: أنّ الجبرَ لا يأتيك على عجل، بل لربما طال انتظاره، أو تأخر ميعاده، أو تجلّى في دارٍ غير هذه، أو اتخذ من الصور ما لم تعهده الأبصارُ بعد. فالحساب ليس لحظةً تُختم بها صحائف الدنيا، بل هو فجرٌ يُشرق بعد أن تُطوى الكتب وتُنسى الأسماء. ومن ظنّ أن الدنيا آخرُ المَدارك، حسب أن الله قد أبطأ، لكن من أدرك أن الحكاية لم تُسدل ستائرها، تيقّن أن الجبر آتٍ، وإن طال به الأمد. وكما قالت العرب:
كل آتٍ قريب.
ثم ينبثق سؤالٌ آخر، لا يقلّ جرحًا عن سابقه: إذا كان كل من يُزفّ إلى الجنة يُجبر، ويُطهّر من شعور النقص، فما بال من علا في الدرجات عمن اكتفى بأدناها؟ وإذا كان الرضا موعودًا، فلم التعب في الطاعة؟ ولم السهر على المحجة؟ ما الحامل على أن يشقى العبد سعيًا، وأقصى الغاية أن يكون سعيدًا كغيره؟
فإن أطلقتَ بصرك في غور المسألة، تبيّن لك أن الجنة ليست موضعَ عِوَضٍ فحسب، بل موضعُ استظهارٍ لجوهر الروح، وانكشافٍ للسرّ المخبوء، ومرآةٍ صافيةٍ يُجلى فيها ما كنت عليه دون رتوش الادّعاء. هنالك تُبعث الصورة الأولى التي نحَتها القدَر على طينتك، فتتجلّى بهاءً لا يُقاس بالنعيم، بل بمدى مطابقتها لما أُريد لك أن تكون.
الدرجات لا تزيد لذة، وإنما تَكشفُ الصدق في السبك، وتفضحُ الدقة في الصياغة، وتُظهر كم وُفّق الإنسان في ترجمة سره الباطن إلى عملٍ ظاهر. ليست المفاضلة حينئذ بينك وبين الناس، بل بينك وبين ظلك في الغيب. لا تُحرّكك الغَيرة، بل ينهشك الحنين إلى ذاتك التي أضعتها وأنت تمشي بين الزيف والذهول. فأنت لا تُسابقُ الناس، بل تُطارد تلك النسخة الكاملة التي رُسمت لك، ثم نُثرت في العالم آثارًا وأحلامًا وخيبات، حتى إذا لقيتها في الجنّة، علمت كم كنت تائهًا، وكم كان الطريق فيك لا فيهم.
ثم إن من ذاق المعرفة لم يعد يسأل: كم أحتاج لدخولها؟ بل صار يسأل: كيف أُحبُّ أكثر؟ وكيف أصدقُ في الطلب؟ وكيف أقترب؟ وإذ ذاك لا يكون الباعث وعدًا، بل شوقًا. شوقٌ يحرق كل فتور، ويُذيب كل مصلحة، حتى إذا سجد العارف، لم يسجد لنعيمٍ منتظر، بل لوجدٍ لا يطاق.
ولما كان الجبر من لدن ربٍّ لا يزن كما يزن أهل الأرض، بل يزن بالقلب المنكسر والعين الساهرة والعزم الذي ما لان رغم الهشيم، كان جبره متلوّنًا بلون الجراح، متفاضلًا كتنوع الآهات، لا يسير على قاعدة، ولا يخضع لمسطرة.
لكنه – ويا للعجب! – يجعل في قلوب أهل الجنة سكينة لا تُشترى، ويملأهم رضا لا يشوبه خاطر مقارنة ولا همس غيرة، إذ قد ألبسهم الله كمالًا ليس في حجمه، بل في تمامه.
فمنهم من جُبر بكلمةٍ أزهرت في صدره كربيع، ومنهم من جُبر بمقامٍ علا به في ملكوت المعنى، ومنهم من لم يُعطَ إلا لقاءً واحدًا، أغناه عن ألف مطلب. فكلهم – على تفاوتهم – استكملوا صورتهم التي خُلِقوا لها، وسُقيت أرواحهم حتى رويت، فانطفأ السؤال القديم: لماذا؟ وذُبِحت الحاجة إلى المفاضلة على عتبة الكمال.
فما الجبر الإلهي بموائد توزّع، بل بنفوس تُرمّم، ولا هو بحصصٍ تُعطى، بل بأرواحٍ تُعاد إلى سكونها الأول، حيث لا رغبة إلا وجهه، ولا مقارنة إلا بما كُنْتَهُ أنتَ في الغيب، قبل أن تشوّهك الحياة.
ثم، وبعد أن خُضتُ كل هذا المسير، أعودُ إلى نفسي، فأجدني أردد بمرارة الحائر: كلا، لم تخمد الأسئلة، ولم يُغلق باب العتاب. ما شعرتُ بتصالحٍ شامل، ولا زعمتُ أني أدركت خفايا المقادير. إنما أنا رجلٌ يمشي، وفي صدره رفيقٌ ثقيلٌ لا ينوي الوداع، هو السؤال، لا كالحمل الذي يُلقى، بل كالظلّ الذي لا يفارق. وما أرجوه، في زحمة هذا التيه، ألا أفقد قدرتي على النُطق، ألا ينطفئ فيّ صوت الشك النبيل، ألا يخذلني إيماني المتعب، ألا أترك الصدق حتى لو وقفت في منتصف الحيرة.
إن العدل، وإن تأخر، لا يُسقط عن ذاته صفة الاستقامة، وإن توارى عن عيوننا لا يُحيله نقصًا. إنه يعمل في الخفاء، يحفر بأناةٍ في جدران الوجود، يُعيد تشكيل اللوحة من وراء الستار. وما تراه ظلمًا في عينيك، قد يكون عدلًا في ميزانٍ لم تُعطَ مفاتيحه، لا لأنك لا تستحق، بل لأنك لا تُبصر كامل اللوحة كمن يحاول أن يرسم صورة للمجرة وهو بالكاد يرى ذراع الجبار.
لقد كانت بدايتي سؤالًا عن العدالة، وقد ظننتُ، لوهلةٍ من التبسيط، أن الإجابة ستجلب الراحة. لكن الراحة لم تهبط، ولا الطمأنينة سكنت. نعم، هدأ العقل، واستراح المنطق، لكن الروح بقيت متوثبة، تتقلب على جمر ما لم يُفهم. فتيقنت، بعد طول شغبٍ داخلي، أنني ما كنت أفتش عن جوابٍ جامد، بل عن حضنٍ دافئ. لا عن تسويةٍ حسابية، بل عن لمسةٍ على الجرح. لا عن منطقٍ نظري، بل عن حضورٍ حيٍّ يشهد ألمي.
أدركت أن مرادي لم يكن أن أؤمن بأن الله عادل فحسب، بل أن أذوق قربه. أن أشعر في قسوة البلاء بعينٍ تراني، وأذنٍ تصغي لآهتي، ويدٍ تمسح آثار الاحتراق من وجهي. إن الجواب، مهما بلغ، لا يُنهي السؤال. وحده الاطمئنان يفعل.
وهكذا، بعد أن أضناني المسير بين شعاب السؤال، واستفرغت جهدي في الطرق على أبواب الجواب، ما عدت أكتفي بأن أقول: الله عادل. بل غدوت أردد في سرّي وعلني: نعم، عدالته أساس، لكنها لا تكفي وحدها، ولا ينبغي لها أن تكون وحدها. وحسبي من رحمة هذا الرب، أن عدله لم يأتِ يتيمًا.
فالله، تبارك اسمه، لم يكن يومًا العادل فحسب، بل كان الجبّار أيضًا، الذي إذا رأى صدعًا رقّ له، وإذا أبصر انكسارًا مدّ يده. وليس شيءٌ أروى لجفاف النفس، من جبرٍ يأتي بعد عدلٍ، كالغيث يأتي بعد موسم حسابٍ قاسٍ على التربة.
ويا للطُفِ الجبر إذا انسكب بعد أن أُحصيت الآلام، ويا لسكون الروح إذا علمت أن ربها لا يقف عند الميزان، بل يتقدّم بخطوة، فيضمّها.
Join the Discussion