Where have my WordPress posts gone?
After many events in my life since the COVID-19 crisis in 2020,…
في البدء كان الصوت. لا صوت البشر، بل صدى أزلي يشقّ ظلمة العدم: “اقرأ”. ولم يكن هذا الأمر بقراءة كتاب مطبوع، ولا صفحة مكتوبة، بل كان إعلانًا كونيًا لولادة المعنى من رحم اللغة. لغة لم تكن مجرّد أصوات تتسلق حبال الحنجرة، بل لسانًا خُلق ليحمل الوحي، ويكون وعاءه وكاشف أسراره.
تخيل هذا المشهد: شاب أعجمي، عيناه تشعان شغفًا، ويداه ترتعشان توقًا، يمسك بمصحف مترجم إلى لغته الأم. يظن نفسه يقرأ كلام الله، بينما كل حرف يمر من فلتر الترجمة، مكسوًّا بتأويل المترجم، منقوصًا من ظلاله الأصلية، فاقدًا لمعراجه البياني. إنه يقف أمام باب الوحي، لكن المفتاح ليس في يده: إنه لا يملك العربية.
في عالم العولمة، حيث تُلقَّن العقائد عبر تطبيقات الهاتف وتُختصر الرسالات في منشورات مترجمة، يكبر سؤال خافت، لكنه فادح الأثر: هل يمكن أن تُفهم الرسالة دون أن يُفهم لسانها؟ وهل يمكن أن يُبنى الدين على ترجمة، لا على النص؟
ليست العربية زخرفًا للمعنى، بل هي المعنى حين يكون وحيًا. فالله، جل في علاه، لم يخترها عبثًا. قال: إنا جعلناه قرآنًا عربيًا لعلكم تعقلون. لم يقل: “لتتعبدوا”، بل: “لتعقلوا”، أي لتفهموا. فمن كان عقله محجوبًا عن اللغة، كان قلبه معرضًا عن تمام الفهم.
إن ما نراه اليوم من اختزال الدين في تعليم الصلاة، وأركان الإسلام، وبعض القصص الأخلاقية، هو اختزال يُنبت إسلامًا هشًا، لا يصمد في وجه السؤال، ولا يواجه التحديات المعرفية والوجودية التي يطرحها العصر. وغالبًا ما يُبنى هذا الاختزال على قاعدة: “علّمه الدين، ثم العربية تأتي لاحقًا إن شاء الله”.
لكن العربية ليست زينة تأتي لاحقًا، بل هي الباب. بل هي الجسر الذي إن لم يُبْنَ أولاً، سقط الراحل في التيه. وهذا التيه ليس خيالًا؛ نراه حين يتحول التدين الأعجمي إلى طقوس صوتية، أو حين تُبنى العقائد على ترجمات حرفية مشوهة، أو حين يتخذ المرء شيخًا ترجمانًا بدل أن يرجع إلى النص.
ولعل المفارقة الأعظم، أن كثيرًا من المؤسسات الدعوية في الغرب، تركّز على تعليم القرآن مترجمًا قبل أي تأسيس لغوي، فتزرع في القلوب حبًا للكتاب، لكنها تحرمها من الولوج فيه. كأنها تعلّق مصباحًا فوق رؤوس العطاش، دون أن ترويهم من النبع.
ثم نتساءل: لماذا بعد سنوات من الإسلام، لا يزال بعض المسلمين الجدد يسألون عن بديهيات عقدية؟ لماذا يسهل على بعضهم الانجراف وراء قراءات منحرفة أو متطرفة؟ لماذا تُفهم الآيات بمعزل عن سياقها، وتُفصل السنة عن بيئتها؟ الجواب المرّ: لأنهم دخلوا على القرآن قبل أن يدخلوا على العربية.
ليس هذا دعوة للتنفير، بل للترتيب. فالقرآن لا يُمنع، لكن يُمهد له. يُترجم للبيان الأولي، لكن لا يُكتفى به. يُعطى معه مشروع حياة: تعلّم اللغة التي بها تنزّل. لا لغة العرب التاريخية فقط، بل اللغة الحية التي تتنفس في آياته، وتهمس بأسراره، وتفتح أبواب التدبر فيه.
إن من أخطر نتائج تأخير العربية، أن الدين يتحول إلى استعارة ثقافية، لا إلى حياة إيمانية. يصبح الإسلام مجموعة عادات شرقية ممزوجة بنُسخ محلية، لا روحًا تنبع من وحي واحد. وتظهر هنا ظاهرة خطيرة: “أسلمة الترجمة” بدل “عَرْبَنَة الإيمان”، أي أن نُحمّل الترجمة سلطة النص، في حين أن النص نفسه لم يُمس.
في عالم مفتوح، لم تعد أزمة الأعجمي في الوصول إلى القرآن، بل في الوصول إلى فَهْمٍ يليق به. وأي فهم لا يبدأ من العربية، سيظل فهماً منقوصًا، مكسور الجناح.
ولذا، فالمعادلة الحقيقية ليست: العربية أم القرآن؟ بل: العربية مع القرآن، لكن بدئًا بها. لأن القرآن نزل بالعربية، لا بأي لغة أخرى. ومن أراد أن يتلقّى كلام الله كما أُنزل، لا كما تُرجم، فلا مهرب له من أن يعكف على العربية كمن يعكف على محراب.
العربية إذًا ليست سابقًا تربويًا، بل واجبًا دينيًا. ليست أداة تكميلية، بل شرطًا تأسيسيًا. وهي للغريب، باب نجاة من اغترابٍ أعظم: أن يظن نفسه قريبًا من الوحي، وهو لا يزال خارجه.
ربما آن لنا أن نعيد ترتيب سلم الأولويات، لا لنعطل القرآن، بل لنصونه من التسطيح. أن نعلّم الأعجمي أن أولى خطواته في الإسلام ليست فقط النطق بالشهادتين، بل تعلّم مفاتيح اللسان الذي نزل به هذا الدين.
وكما أن القرآن لا يُفتتح إلا بالبسملة، فكذلك رحلة الإيمان لا تُفتتح إلا بالعربية.
وفي النهاية، يبقى السؤال معلقًا في ضمير كل مسلم يرى في الهداية مسؤولية لا امتيازًا: كم من الأرواح تعلقت بالقرآن، لكنها لم تجد إليه سبيلاً؟ وكم من العقول أغلقت دونها أبواب التدبر، لأن المفاتيح أُخّرت بدعوى التيسير؟
إن وراء هذه المفارقة حكمة لا يدركها إلا من تدبّر: وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين.
لسان لا يُفهم من وراء حجاب. بل يُدْرَك بالبصيرة. ومن لم يسع إليه، فاته النور الذي في الكلمة، لا في صوتها فقط.
Join the Discussion